الصوفية يكثرون من الأشعار ومن الدعاوى في المحبة لله -زعموا- والحقيقة أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأولياء الله الصالحين حققوا هذه المحبة على الحقيقة، حقوقها في قلوبهم وأحوالهم، أما
الصوفية فدعوى فقط، بغض النظر عن الزندقة والكذب، وعن دعوى المحبة التي ليست إيمانية، ولو نظرنا إلى من يتكلم بهذه المحبة والود والهيام والشوق، لوجدناها كلها دعاوى، إنما هي مجرد أشعار يقرءونها وينشدونها ويتمايلون ويبكون عند سماعها، أما حقيقة هذه الأشعار والأذواق والوجدانيات.. إلى آخره، هذه عاشها الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم حقيقة، والتابعون وأولياء الله العباد الصالحون عاشوها حقيقة وإن لم يتمثلوا بها شعراً.فـ
الصوفية مثل الذي يتكلم ويتغزل بمحبوبته، والآخر مثل الذي حصل على ما يحب، وبذل، وأعطى، وأنفق، وأكرم حبيبه، وضحى من أجله بالفعل، الفرق بين هذا المتمني من بعيد، وبين الذي يحب ويدفع ويبذل ويضحي، وإن لم يقل بيتاً من الشعر في هذا المحبوب.إذاً: فهذه الأبيات إنما تليق بالله سبحانه وتعالى، على تعديل في بعض العبارات أحياناً، فمثلاً قول أحدهم:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنكم ولا متقدم أي:
يجب أن تقف رغبتك ومحبتك وميولك حيثما كان أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تكن متقدماً عنه ولا متأخراً، هذا الذي يليق بك أن تكون عند مرضاة الله عز وجل، لا تتقدم ولا تتأخر، لا تغلو فتزيد من عندك في الدين ما ليس منه ولا تقصر؛ لأن السنة كما قال
الحسن رحمه الله: [
السنة وسط بين الجافي عنها والغالي فيها، فلا تتقدم ولا تتأخر عما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم].وكذلك قوله:
أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم نقول: يجب على الإنسان المؤمن أن يجد الملامة في محبة الله، وفي طاعة الله لذيذة.وقوله:
حباً لذكرك فليلمني اللوم أي: فليلم اللوم، وليقولوا ما شاءوا؛ لأن غاية ما يقولونه هو نفس ما ذكره، كما شعراء الغزل:
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا سوى أن يقولوا إنني لك عاشق أي: دعهم يسبونني، وليقولوا: إنني عاشق، فهذا شيء أفتخر به، وهذا المعنى أولى أن يحققه المؤمن؛ لأنه ماذا عسى أن يقول الناس فيك؟ إلا أنك محب لله، تجاهد في سبيل الله، وتدعو إلى الله! فليكن ذلك، وهل هناك شرف أفضل أو أعظم من هذا؟ فهذا هو التعرض للوم الحقيقي.وتعلمون أن طائفة من
الصوفية سمت نفسها
الملامتية ، وألف فيهم
أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي المعروف كتاباً مطبوعاً -وإن كان قليل التداول- سماه
الملامتية .وهؤلاء
الملامتية سموا بذلك؛ لأنهم يقولون: افعل أي شيء تلام عليه، واحرص أو اجتهد في فعل شيء من العبادة لكي يلومك الناس من أجلها، وكما يقول بعضهم: اذكر الله حتى يقال: إنك مجنون، اتركهم يلومون ويقولون: مجنون، وقد وصل الحال ببعضهم إلى ما يشبه المجانين فعلاً، حتى إن بعضهم -نسأل الله العفو والعافية- غلا في ذلك، فأصبح يرتكب بعض المحرمات وهو يعلم أنها محرمة؛ حتى يلومه الناس، وحتى يسقط من أعينهم.فهذا ضلال في فهم اجتناب الرياء، واجتناب الاغترار وتعظيم الناس، فانظروا كيف تكون الأدواء النفسية صعبة جداً، والواحد لا يستطيع أن يعرفها، حتى قيل: إن أولياء الله وعباد الله من
الصوفية إنما هربوا وفروا عن القضاء، وعن العلم، وعن مجالس الفتيا، وعن التبحر في المسائل، وعن التقرب إلى السلاطين، وعن هذه الأمور إنما فعلوا ذلك حتى يجتنبوا الناس، ويجتنبوا الدنيا، ويجتنبوا الاغترار والعجب؛ فلبسوا الثياب المرقعة، وأخذوا يأكلون مما يعطيهم الناس من أبسط العيش، وعاشوا بعيدين عن الناس، فسلموا من هذا.ولكن تدرج الحال، فأصبح الناس لا يعظمون القاضي لكونه قاضياً، أو الفقيه لكونه فقيهاً، إنما يعظمون من يسمونه أولياء لله، فإذا وجدوا إنساناً في زاوية من زوايا المسجد يذكر الله، ويسبح، ويقرأ القرآن، وثيابه رثة عظموه وأكرموه وأجلوه، وقالوا: ادع الله لنا، وتمسحوا به، وتبركوا به، وأينما ذهب يتبعونه، فقالوا: ما دام الأمر كذلك، فالحل أننا نخالف مراد الناس، فنفعل أفعالاً يحتقرها الناس، ويتركوننا من أجلها، حتى إن بعضهم كان يمشي في السوق، فما وجد وسيلة ليصرف الناس عنه -لأنهم كانوا يمشون وراءه ويعظمونه- إلا أن سرق جوزاً من السوق، وأخذ يأكلها، فكرهه الناس، وقالوا: هذا ليس ولي، فتركوه وتفرقوا عنه.فيقول أصحاب
الملامتية ، أصحاب المنهج الضال، الذين يعالجون الضلال بالضلال والخطأ بالخطأ: يجب على الإنسان أن يتعرض لما يلام عليه، وأن يعمل أعمالاً يلام عليها، فيسلم من العجب والرياء والغرور.. وما إلى ذلك.